dimanche 25 septembre 2016

تمجيد الحروب في تاريخنا الإسلامي، كيف نقرؤه اليوم؟

قرب حدود السودان الشمالية، عثر علماء الآثار على مقبرة لاحظوا على الهياكل العظمية لقرابة نصف المدفونين فيها علامات تدل على وفاتهم نتيجة عنف، وقدروا على أساس ذلك أنها قد تكون شاهداً على أقدم حرب عرفناها حتى اليوم، دارت رحاها قبل أربعة عشر ألف عام. ومنذ ذلك التاريخ، وحتى الصراعات الدائرة اليوم، راح ملايين البشر ضحية الحروب.
إلا أنَّ من أقدم ما وصلنا مكتوباً عن فلسفة الحرب هو مخطوطة "فن الحرب" للجنرال الأسطورة سَن تسُو، وقد كتبت في الصين في القرن السادس قبل الميلاد، وتعدّ من أهم المؤلفات، في مجالها، في تاريخ البشرية كلها. إذ يطرح فيها ذلك الجنرال شروط الحرب وقوانينها، وأولّها "القانون الأخلاقي"، بعده يأتي ثاني شروطها وهو "السماء"، أي الظروف المناسبة لتوقيت الحروب في النهار أو الليل، أو في أي فصل من فصول السنة، ثم "الأرض" كثالث الشروط، أي الأرض التي ستدور فيها المعركة، و"القائد" رابعها، وأما آخرها فهو "الانضباط"، وبهما، أي شجاعة القائد والتزامه وانضباط الجيش وتنظيمه، تُكسب الحرب. ومع أن ثقافات العالم ومن ضمنها الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي طرحت الحروب ضمن تساؤلات فلسفية وأخلاقية ونظريات لا تعد ولا تحصى، إلا أننا حتى اليوم لم ننته من محاججة قانون سن تسُو الأول، القانون الأخلاقي، ولم تستطع البشرية أن تتخلى عن حروبها، ولا أن تتفق على مغزاها وجدواها، ولا على مشروعيتها أخلاقياً.

الحروب في كتابات الغرب والمسلمين

إن العنف مكّون أساسي من مكونات السلطة بكل أشكالها، ومع أنه لا يبرز بصورة مستمرة، إلا أنه يتفجر كلما اقتضت الضرورة، فكان ولا يزال سؤالاً ملحاً في الفكر البشري. في الثقافة الغربية، من عصر ما قبل سقراط حتى اليوم، تصدّرت التساؤلات الفكرية والنظريات الفلسفية قلق البشرية حول وجودها، وكان دائماً على رأسها موضوع الحروب. في أحد تصوراتها، كانت الحروب تعتبر ضرورة، مثل تعاقب النهار والليل، لا بد منها لانضباط الكون وحياة البشر، وهذا ما عرف بالنظرية "التصارعية" التي تقر وتقبل بالوجود الدائم للصراعات. وبعد قرابة ألفي عام، عادت هذه الفلسفة للحياة على يدي الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز.










ومن نقاش في أحد أعمال أفلاطون، وكذلك من كتابات أرسطو وشيشرون (كيكرو الروماني)، وبعدهم في كتابات فلاسفة العصور الوسطى المسيحيين، ظهرت نظرية "الحرب العادلة"، وغدت الأهم في العالم المسيحي، واعتمدتها النقاشات الفلسفية مراراً وتكراراً حتى وقتنا الحالي في أزمات القرن العشرين، وتعمقت نقاشاتها مع ظهور الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التي سعت لوضع أسس قانونية يخضع لها العالم بأسره.
أما الثقافة العربية، فهي بدورها قدمت منظوراً هاماً لمقاربة موضوع الحروب، ووضعت أطراً لفهمها، وأسئلة تناقش قواعدها وشروط شرعيتها. وبالاستناد إلى القرآن والسنة، أغنت الشريعة الإسلامية البحث في التبعات القانونية للحروب، وقدم فلاسفة العرب، من العصور الوسطى حتى اليوم، أراء ونظريات في فهمها ومقاربتها. وفي السنوات الأخيرة، بات التقاطع في مفهوم الحرب من منظور الثقافتين العربية والغربية محط اهتمام واسع.

حروب التاريخ الإسلامية: حروب التاريخ الوسيط

حين ندقق في صفحات معارك الماضي، سنجد قصصاً عن رؤوس قطعت، وأخرى أرسلت من مكان إلى آخر، وعن رجال قطعت أجسادهم، وعلقت أشلاؤها في مركز المدينة، وعلى مداخلها وجسورها، وسنقرأ أيضاً عن رفات أموات تنبش لتصلب ويمثل بها، وغيرها الكثير من الفظائع التي كانت واقعاً. إلا أن ذلك لا يختلف عن وصف الحروب التي تمت على طول التاريخ، وفي كل بقاع الأرض، إذ كانت جزءاً لا يتجزأ من توسع الإمبراطوريات وازدهارها.
ولكن ما يلفت الانتباه هو أن أفعال "أغار" و"قتل" و"سبى" و"غنم" تتكرر في كل قصة من كتب تاريخنا التي تتحدث عن الحرب، وكأنها الأركان الأربعة لوصف "الفتوحات". ومع أننا نتفهم اليوم الأبعاد الاقتصادية والسياسية التي استدعت وجودها في الدرجة الأولى - فقد كانت ممارسات هدفها إظهار القوة وخلق صورة تساهم بدورها في ضمان المزيد من التوسع والسيطرة - إلا أننا على الرغم من ذلك، نواجه أزمة "معرفية" عند قراءة هذه القصص، ليس لأنها جزء من تاريخنا، أو لأنها قد وقعت بالفعل، فهذا كان حال الحضارات قاطبة. تنبع الأزمة من سلخ تاريخ الحروب عن سياقاته، واعتباره استثنائياً، ثم اختياره ليكون قريناً للهوية الإسلامية، دون غيره من ممارسات السلطة والحكم السائدة حوله، التي وثقتها مئات القصص.

لا لتبرير الحروب باسم التاريخ

هل كانت الحروب حكراً على تاريخنا العربي الإسلامي وحده؟ بالطبع لا، وقد اشتركت فيه كل ممالك العصر الوسيط، ولهذا فإن النظرة للحرب على أنها دمغة التاريخ الإسلامي خاطئة وتعسفية. والأهم أن ادعاء طابع "حربي" للإسلام له تأثير خطير على حياتنا اليوم، فهو يدعم تماهي حروب التاريخ الوسيط مع حروب اليوم، ويشرعن القتل باسم الدين، ويغذي مناخ القبول بالحروب وفظائعها كجزء من هويتنا. في صيغتها المتطرفة، تشرّع هذه النظرة العداء للبشرية جمعاء، وتتغنى بالسيف والدم والدمار على أنها رموز الإسلام، فنقرأ أن الإسلام "دين قوة"، و"دين قتال"، و"دين تقطيع رؤوس"، و"دين سفك دماء".

دار الحرب ودار الإسلام

تتردد تبريرات لصراعات العصر الحديث ضمن فصل بين "دار الحرب" و"دار الإسلام"، وهي ثنائية استخدمت في تاريخ الإسلام في سياقات فقهية أكثر منها ثقافية، بمعنى أن تطبيق أحكام معينة يتغير بحسب أماكن تواجد المسلمين، لم تعن يوماً أن الحروب مقتصرة على "دار الحرب"، ولا ضرورة لتوضيح ذلك. فقد دارت حروب على أرض المسلمين، كما عقدت معاهدات سلام، واتفاقيات وتحالفات بين "دار الحرب" و"دار الإسلام". وحتى عندما كان استخدامها متداولاً، كانت أرض الخلافة الإسلامية تضم جماعات وديانات وطوائف ومذاهب وثقافات متنوعة، وكانت تتشابك مصالح حكامها وعلمائها وتجارها ورحالتها، سياسياً ومعرفياً ودبلوماسياً واقتصادياً، مع بقية أرجاء المعمورة. وهذا لم يتغير حتى اليوم، بل زاد انفتاح العالم بعضه على بعض في كل المجالات، وغدا الفصل التبسيطي بين "دار الحرب" و"دار الإسلام" عبثياً، غير مقنع وغير مجدٍ بأي شكل من الأشكال.
إن التأكيد على هوية الإسلام "الحربية" يساعد في استخدام هذه الثنائية في التكريس للعداء واستباحة حق الناس في الحياة. وبتأمل بسيط في خريطة العالم اليوم، يمكننا بصلابة وثقة أن نفند أي ذكر لها ناهيك باستخدامها وتوظيفها، فهي لا تليق بالثقافة الإسلامية التي أصبحت من أكثر الثقافات انتشاراً وتنوعاً وغنى.



التاريخ مُلك لقرائه

اليوم وقد أصبحت صور الدمار والقتل والأشلاء المدفونة تحت الأنقاض ألماً يومياً، كيف يؤثر ذلك في قدرتنا على قراءة تاريخنا المتخم بقصص الافتخار والاعتزاز بالقتل والتدمير؟ إن مشاهدتنا، كل يوم، لآثار الحرب على الناس والأبرياء، تجعل قدرتنا على تناسي خسائر الحرب من الطرف الآخر خلف ستار "العدو" في كتب التاريخ مستحيلة. سواء أكان العدو فكرة، أم جيشاً، أم أيديولوجية، فما هو حال الناس الذين يخسرون بيوتهم وأهلهم وحياتهم باسم الحروب دون أن يكون لهم أي مصلحة فيها، أو دور في حدوثها؟ وعند قراءة هذه التواريخ، لا بد أن نتساءل: ماذا حلّ بتلك المدن والمناطق التي تعرضت للغارات؟ ومن هم هؤلاء المجهولون الذين نذكرهم بصيغة الجمع على أنهم قتلى هذه الغارات؟ وأما السبي والنهب، اللذان كانا مصدر تمويل لهذه الغارات، وسبباً أساسياً لها في المقام الأول، فهل يكفي تفهم أسبابهما لنقرأهما كـ"مثال" من تاريخنا دون أن نتأمل بالأذى الذي لحق بمن خسر كل شيء؟
مساءلة مقارباتنا لتاريخنا مهمة عسيرة ولكن لا بد منها، واليوم يتطلب تحقيقها خطوات صعبة وجريئة. إلا أن ما يمكننا أن نتمسك به الآن دون تردد هو رفض تشريع الحروب ضد أي كان باسم الثقافة والتاريخ، وبدلاً من ذلك علينا أن نطالب بأن تسمّى الحروب بأسمائها: حرب توسع، وحرب للسيطرة، وحرب لنهب الموارد، وحرب للحفاظ على السلطة، أو حرب بهدف إعادة توزيع النفوذ، إلخ.
إذا كانت ظروف الواقع تترك بصمتها على توجهات الأجيال في إعادة صياغة تراثها، فهل تكون صراعات اليوم حافزاً لنعيد كتابة تاريخنا الطويل دون أن نسمح للحروب والدمار أن يُستخدما خارج نطاقهما وسياقاتهما، ودون أن نفتح باب التراث لمن يريد أن يختار وينتقي أي الشرور علينا أن نتقنّع بها، وأيها أنسب لتشويه هويتنا وتسويغ مآسي عصرنا الحديث.
ــــــــــــ المقال منقول عن :

إيناس خنسه باحثة سورية مختصة بشؤون العالم العربي. عملت كأكاديمية ودبلوماسية في عاصمة الولايات المتحدة واشنطن. حاصلة على شهادة دكتوراه من جامعة جورج تاون وعلى منحة زمالة ميلون من جامعة هارفارد. إيناس تكتب بشكل مستمر لرصيف22.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire