mardi 20 mai 2014

سلام عليك يا نار أبي


 28 ماي من كل عام , ياتي هذا التاريخ محملا بألم 20 سنة , ألم مشبع بأوجاع الحياة , ابتدأ بألم الوجود جئت و لم يستشر احد خياري في الوجود , هي مأساة أن تحيى بلا رغبة في العيش, كذلك هو أسى الم 20 سنة من الحياة .لا أدري بأي ضمير يسعني أن أتحدث, بضمير الغائب و شاهد لم يشهد شيء! , أم بضمير أعمى أبصر الدنيا و قال عن نفسه:
 " كان من أول أمره طلعة لا يحفل بما يلقى من الأمر في سبيل أن يستكشف ما لا يعلم. و كان ذلك يكلفه كثيرا من الالم و العناء" ! ,   أم بضمير المتكلم يقول أنا و يحيا العناء !
كان يوما كجميع أيام وجعه, من حيث سبيل أن يستكشف ما لا يعلم, و من حيث سقف آماله الذي يعلو رأسه القصدير و القماش الذي يمنع تسرب الهواء إلى غرف البيت .بدا  تاريخ ذلك اليوم بسخرية القدر , أن يطعم الجائع الشبعان, كأن تحدث أعمى عن جمال الألوان و المجنون عن السكينة و الوقار , إذ اقسم جدي "يوسف" من يوم أن خلع سرواله أمامنا و نحن أطفالا حتى يخرجنا من بيت أبيه الذي لجأنا إليه فقرا بان يشبعنا أكيالا مكيلة من مر هذا الوجود كقسم الله << و العصر ان الإنسان لفي خسر>>, ذلك أن من سخرية القدر أيضا أن يطلب الانسان بالإنفاق على والديه عوض  ان يطالبهم بغرامة ألم الحياة ذلك أن ليس في هذا الوجود ما يستحق الحياة .كذلك أدرك أبي عصر يوم الاحد 28 ماي 2006 ان ما على هذه الارض ما يستحق الحياة:عامل في أرشيف المحكمة بين غبار الزمان و رائحة عفن حياة  الناس   , لا يقدره الناس سوى عند حاجتهم له ,  أخوته عبيد أنفسهم و والدين عبيد شبع كروشهم ,  يسكن كوخا يسدد أقساط شرائه على 20 سنة  و يقع عند  أقصى اطراف الحضارة حيث عند سدرت المنتهى "أولاد يوسف"  –و من عجب الأقدار فعلا أنهم أولاد يوسف-   ذلك ان هؤلاء القوم لما سكنا معهم عند منتهى حاضرة صفاقس و مازال الصفاقسي يتكبر عليهم  كما قال فيهم ابن خلدون عليهم بوصفه لهم أن العُرب لا يعرفون من الحضارة سوى هدم القصور حتى يفوزوا بأثافي لقدورهم . أتينا و سكنا في ربعهم و رضينا بتجبر أقربهم جيرة لنا " غلام" بأن يقتص من أرضنا ضريبة أننا صفاقسيون . كان أكبر أوجاعه ألما ما أصابه من دهاء والده أن رفع عليه دعوى نفقة متعللا بقدرة ابنه هذا دون بقية أولاده حتى انه اشترى ارض بها كوخ بقرض يسدد على طيلة 20 سنة, هذا رغم ان جدي العجوز هذا  كانت جراية تقاعده التي تصرف له شهريا اكبر من دخل ابنه الشهري و الذي له ولد و بنت .

 تلك هي سخرية القدر أن يلدك أبويك اثر متعة جنسية ثم يجعلانك تقف حتى يستظلان بظلك و كأنك شجرة .فعلا نأتي اثر لّذت عاشها والدينا حسب عرف مجتمعات الكآبة التي تعتبر الجنس وسيلة الترفيه الوحيدة  و مشروع كل منّا, فمن لعبة روّحوا بها عن أنفسهم حتى أذاقهم الله بنينا ثمرة لهوهم ,  نشبّ تحت أوامرهم و نخدمهم في مشيبهم , هذه هي عبثية الجنس و الجنس البشري , إذ يُقتحم بنا سلسلة كآبة التناسل و الترفيه الجنسي , فلا يسع أحدنا أن يستقل بمشروعه الفردي و  يتميز , و لا يسع لنا أن نجرد لعبة الجنس من إطارها الطبيعي  فلا تكون أهل للإلزام أو الالتزام بل شيء من الإنشباك الحميمي.    بدأنا ذلك اليوم بجولة معا نبحث في الوادي المجاور لمنزلنا عن ما استقر به من أحجار و آجر من فضلات حظائر البناء, مازلت أذكر شمس ذلك الصباح كأنها شمس يوم الوعيد او نارا تلظى , عدنا بعد ما صلينا من حرّها و كالعادة تحججت  بواجبات المدرسية و كنت في اليوم الموالي أصبح على اجتياز اختبارات الأسبوع المغلق لسنة التاسعة اساسي, فظفرت برخصة الفرار من أعباء البناء و كنا يومها نكمل إنشاء جدار أخر للزريبة عوض كومة الأخشاب و الخردة , كان طيلة ذلك اليوم جارنا العجوز "غلام " يروح و يغدو متفقد ما اقتنصه لنفسه من أرضنا تحسبا على شبر أو شبرين قد نسترجعهم , يرافقه أبي بسبّه و شتائمه إما الخفية او العلانية في حين يشير ذلك الشيخ المصلي بالتهديد بالاقتصاص لو حاد الجدار قيد صنتيمتير الى جهته هذا و أن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر كذلك شأن جدي "يوسف" الذي اعتمر عام ان خلع سرواله امام أحفاده حتى يطردهم من منزل لجئوا اليه , فإقامة الشعائر الدينية لا تعني صدق الأقوال أو طهر الأفعال بل هي استناد تجبر الطغاة على عظمة الرب يقيمون له العبادات و يمكنهم من ظلم العباد و كأنهم ياتمرون بقوله  << فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ>> .  و كيف لعائلة تتركب من زوجين فقرين و طفليهما ألا يخنعوا لرغبت ذلك الجار و قد سبق و ان أطلق علينا أبنائه الأحد عشرة يموجون فينا موجا ,  فلا أنسى يوم الذي ذقت فيه معنى البربرية , فكثيرا من المعاجم البؤس ذقت معناها دون إدراكها,   كان أصغرهم في العشرين من عمره و كنت لا أتجاوز 13 سنة , هذا يقذفنا بالحجارة و تلك ترمينا ببصاقها , كان صراخهم و عويلهم ينبأ السامع بان يأجوج و مأجوج فتحت عليهم غير أنهم هم الذين فتحوا علينا من كل حدب و صوب , تنزل الحجرة على سقف بيتنا القصديري كوقع قذائف المدافع و أنا و أختي عند جناحي أمي الباكية , أمّا أبي فانه كان في الخارج موثق الى جذع شجرة التوت و هم يطفون به كطواف الإفاضة بعد رمي الجمرات الثلاث.سبقي ذلك المشهد المغروز في ذاكرتي كما سبقته مشاهد أخرى تشاكله , كيوم خلع جدي لسرواله فقبل أن يسقطه أمام أنظارنا في فناء المنزل و يتجلى لنا تبّانه الأبيض , أبرح أبي ضربا خارجا بصخرة على رأسه من حجارة الرصيف , كان أبي عندها طريح الأرض و الدم يملأ وجهه و يعلو ظهره جدي و هو يسعه دقا بتلك الصخرة , هي كذلك ذاكرة طفولتي فما يزال صدى ضجيج تلك الملاحم يتردد في أذنيّا و يتكرر و يعصف بذهني و مداركي حتى بدأ يثقل سمعي من ذلك الصدى.و في العصر كيف لمؤمن أن يكذب قوله تعالى << و العصر إن الإنسان لفي خسر>> عندها كنت عند باب الدار أهم بالخروج حتى التحق بابي و أمي و ما نحن بصدد إنشائه , فهاهو يمر مسرعا كالعادة مهمهما مزمجرا و أصناف الشتائم تنصت لها, أقبلت حيث ما نحن بصدده , و وقفت حذو كدس الأخشاب التي نزعناها من مكان الجدار الذي نحن قيد إقامته و كانت امي تحدث زوجة خالي بما نواجهه في ذلك الأسبوع من مشاكل و كان خالي على مسافة منهما يتناقش مع جارنا ذلك العجوز المصلي, و ما أن توقفت حتى عاد و هو يحمل بيده وعاء ملئه بنزينا من الدراجة النارية , صعد كتلة الأخشاب و الخردة تلك و قال صارخا << ها انا سأحرق نفسي حتى يتمتع أبي و "غلام" بالارض >>  ما أكمل جملته حتى أشعلت ولاعته ما سكبه على صدره من بنزين و انفجرت أمام أعيننا السنت اللهب تتصاعد منه , ما وسع فكري لحظة سكب البنزين إلا أن اخذ حفنة تراب ارميه بها حتى لا يشتعل و لكن قدحت النار حتى قبل ما أكمل اخذ الحفنة , كل شيء مرّ بسرعة , هاهو خالي يدفعه بعيدا عن الأخشاب , أسرعت عنده , حتى ماذا؟ لا اعلم فقط أسرعت لعنده , اخذ بنزع قميصه ,  تتصاعد  و تأخذ ألسنة اللهب في الانسكاب الى أسفل رجليه و أخرى تتصاعد الى أعلى , و وجهه يلتف حوله اللهب ,و  يلتف معه سواد محاط بلهب , اخذ ذلك اللهيب يجذبني له و يحرق أصابعي و انا أحاول الإمساك بأبي , الا انه فجأة اخذ بالركض نحو ذلك العجوز و احتك به و نقل اليه لهيبه , و انا أسرع خلف أبي غير اني وقفت و مزقت ما تشبث بالعجوز من النار بثيابه , ثم أكملت ركضي لاجد ابي يتدحرج في التراب تحت شجرة التوت في أرض ذلك العجوز , طفقت اصرخ و انا اركض ابحث عن حنفية او وعاء به ماء و أنادي << هاتوا لي سطل ماء هاتوا لي سطل ماء>> حتى سمعني احد ابناء العجوز و اخذ بساط من على الحبل و غمّ به ابي المشتعل فانطفأ لهيبه ...ألسنت النار , ذلك اللهيب , الضجيج , الصراخ , و خاصة صوت قدح اللهيب ياخذ بين الفينة و الاخرى اصوات كانها تكلمني و لا أفقه قولها.وقف ابي على رجليه و قد جردته النار من ثيابه سوى التبّان , غطيته بذلك البساط و عبرت به الى منزلنا عائدين إلا انه رفض المسير و هو يقول لي اتركني اموت حتى يشبع ابي بالرزق اتركني حتى تشبعوا انتم و أمكم بالرزق , عبرنا الى منزلنا توقف للحظة حتى ينزع أدمة كفيه كما ينزع قفرين , لم يتبادر لذهني عندها سوى أمنية اني فعلت مثله أيضا فما الذي يستحق الحياة في هذا العالم , ما نحن كذلك حتى  صرخت اختى الصغيرة ذات 10 سنوات عندما لمحتنا من النافذة  , عندها وجدت نفسي و ابي ان ساحة منزلنا مليئة بالمتفرجين , كيف أتوا ؟؟ ما سمعوا حتى هرعوا إلينا؟؟كان مشهد الناس المتجمهرين يثير ابي  فاخذ يقول و يصرخ << هاتوا لي سكين حتى أكمل قتل نفسي , دعوني , اتركوني أموت , دعوني اذهب لأقتل ابي...>>  لحسن الحظ مشى خطوتين على الأقل و رضخ لطلبي و دخلنا منزلنا , ثم تركته و خرجت اطرد لتلك الجماهير << ارحلوا , اتركونا ..>> رجعت لابي لأجده مازال يسلخ جلده المحترق و هو يطلب مني الماء , دخل علينا اثنين من جرانا الذين يحبهم ابي , و اخذوا هم ايضا في تهدئة روعه حتى أتت سيارة الاسعاف و اخذوه , هممت على اثر صعوده في السيارة ان اصعد معه الا ان ممرضا نهرني لا ادري بما قال و لكن عندها انفجرت بالبكاء و اخذت بطرد كل من اجده امامي , لم اجد احدا عندها من عائلتنا لا امي و لا خالي و اختى او ابناء خالي .لم يسعني في ذلك الوقت سوى التفكير في الانتحار ايضا , كان ساعتها يجتاحني إيمان قوي أن حياتنا ستتغير إثر هذه اللحظات كان خوفي كبير جدا و كانت ساعتها رغبتي في الانتحار هي ايضا عظيمة و لكن ما الطريقة الاكثر نجاحا من احراق النفس ؟؟هو فعلا هذا العالم لا يستحق الحياة  , نعيش النقيضين فينا :

أحاسيسنا المرهفة و المادي الخشن , نعيش   طمأنينة داخلية و  نحيا بأس المنظر و ضجر الشرائع و القوانين اليومية ....ان عالمنا الذي يقف على وجهين متناقضين يحرقنا في اليوم مرات عديدة , وجه يبحث عن المعنى من الوجود و من أشكاله :

 أي معنى في وجودنا ؟ أي معنى في الأبوة؟  أي معنى في الحب ؟ أي معنى في حياة اخرى بعد الموت ؟ أي معنى لكل هذا المعنوي لو اجبنا عنه ؟؟؟

و وجه آخر من الحياة هو من العداوة بمكان للمعنوي منّا , حقيقة الموت المؤلمة التي هي موجعة بالفقدان , حقيقة الجنس التي تخسف بمهجة الهيام و الحب , حقيقة تلك الأجسام التي لا تستغني عن دورة غذائية , حقيقة ان الخيال و الاحلام تعسر ان تكون من اليقضة في شيء , حقيقة أن عالم الانسان يحيى صراع وجود مع الانساني و المعنوي فينا :

  • تقحم الطفولة في صراعات المعابد و العرقيّة
  • تنمذج الجمال فأصبح الحسن ماهو من الموضة
  • تقنن الحب فليس هو أكثر شهوة التناسل
  • سجن الله في معابده و قيد بشرائع...

أيّان للإنسان حياة بلا عقد !!!
فكيف يا أبي تأتي بي إلى هذا العالم و خشيت على نفسك منه و لم تخشى علي منه ؟ و لكن يا نار سلام عليك طهرته من أوجاع الحياة.